أناالموت!....
فى سيدى بشر صخرة يحيط بها زبد البحر وحبب الموج كما تحيط قلادة اللؤلؤ
بعنق جنية سمراء...فوق قمة تلك الصخرة جلس شاب فى يده كتاب، لايدطالعه...ولكنه
يطلع الأفق اللانهائ تارة، وتارة أعماق الماء...مامن شك فى أنه يصغى إلى همسات
تناجيه وتناديه...أهى خارجة من بين أسطر كتابه...أم آتية من الشفق البعيد، أم
صاعدة من الغور السيق؟...إنه يسمعها من هنا ومن هنك...إن لغتها مفهومة له...وإن
مراميها معلومةلديه...وجاءت اللحظة الحاسمة: فنهض قائماً كأن شيئاً يجذبه، وألقى
بنفسه فى الماء...
لم يمض قليل حتى شعر السابحون ورواد (البلاج) أن فى البحر غريقاً...هاج
الشاطئ بمن عليه وماج...وعلاالصياح وارتفح الضجيج، وبادرت قوارب الإنقاذ ... وهرع
المجازفون من حذاق السباحة...وبداللناس أن تلك التدابير على غير جدوى، فهم يرون
على البعد ذلك الجسد التعس ينتفض لحظاته الأخيرة، ولم تعد تظهر منه إلا الأذرع
المضطربة مع الأمواج...ولن يصل المنقذون إلا وقد صار فى القاع...وجعل الناس يتتعون
مصير ذلك المجهول بقلوب واجفة...وكثر البكاء عليه من كل رقيقة أو متظاهرة
بالرقة...وتمتمت الأفواه بالترحم عليه...وقد أيقن الجميع بهلاكه، ولم يبق عند أحد
شك فى تلفه ...
ولكن صحيحة فرح لم تلبث أن دوت فى ذلك الجو العابس...فالتفت الناس ... فإذافتاة
(مايوه) تركب قاربا صغيرا من المطاط زاهى اللون قد ظهرت من خلف الصخرة تحمل أمامها
فوق مطيتها جسم ذلك الشاب: كأنها تحمل مقطف مشترياتها من السوق، وهي تهلل مرحة فى
قلب البحر: "(هو ... هو ... هالو ... هالو ... !)"
فأدرك الناس أن ذلك الجسم المحمول بين يديها لم يزل ينبض بالحياة...
وهتفت الجماهير على الشاطئ للفتاة، واتجهت إليها جماعة السباحين والمنقذين،
يأخذون منها الغريق ... ويسلمونه لرجال الإسعاف، ومشت الفتاة مختالة بين الحشد
المحيط بها، المتسائل عن حقيقة الحادث...وهي تجيب قائلة: إنها شاهدت كل شئ ... من
البداية حتى النهاية، فقد كانت تجدف فوق قاربها المطاط قرب الصخرة، وأبصرت الشاب
وهو يهب مستويًا على قدمية فوق القمة، ويطرح من يده الكتاب ثم يلقى بنفسه فى
الماء، فأسرعت إليه مجدفة بكل قوتها حتى بلغته وقد كادت تطويه الأمواج، فقبضت على
ذراعه وجذبته إلى مطيتها الخشبية وهو خائر القوى فاقد الوعى ...
-
إنه حادث انتحار
إذن؟! ... لماذا أراد أن ينتحر؟! ... هذا هو السؤال الذى حار على كل الشفاه! ...
قد يكشف التحقيق عن السر، فالانتحار من الحوادث الجنائية التى يجب أن تتولى
فيها التحقيق النيابة العمومية...
ولم تكن حالة المصاب الصحية على شئ من الخطر...فلم يكد يسعف بالعلاج حتى
أفاق...وعاد بعد قليل إلى حياته الطبيعيه، ومثل بين يدى وكيل النائب العام، وكان
فى قاعة التحقيق تلك الفتاة شاهدة الإثبات تدلى بأقوالها، فلما فرغت...التفت
المحقق إلى الشاب قائلا:
-
ماهو الباعث لك على
الانتحار؟...
فلم يحب الشاب، ولكنه التفت إلى الفتاة يتأملها من رأسها إلى كعب
حذائها...لاتأمل المعجب بحسنها، بل ...
وكنتم فى صدره نفخة غيظ ثم قال:
-
وما هو حق الآنسة فى
منعى من الانتحار؟!...
فتردد النائب قليلا، ثم أراد الكلام...ولكن الآنسة انطلقت تجيب:
-
لورأيت منديلى يسقط مني
فى الطريق أفلاتنحنى وتتناوله وترده إلىّ؟...إذا كان هذا من حقك، أفلايحق لي وقد
رأيت حياتك تسقط منك فى البحر أن أنحنى وأتناولها وأردها إليك؟!
فقال الشاب بقوة:
-
لا يا سيدتى!.
موضوعنا عكس ذلك بالضبط...إن منديلك لم يسقط منك فى الطريق...بل أنت بيدك وإرادتك
أسقطته عن عمد...فلو رآك أحمد وإرادتك وأنت تلقين به فى الطريق أو فى البحر، ثم
تطفل وتدخل ليرده إليك: فهل تعتبرين هذا من حقه؟...
فقالت الفتاة متتحدية:
-
ولكن المنديل...
وهنا تمتمل وكيل النيابة فصاح:
-
دعونا من مسألة
المناديل هذه ... هذا كلام لايدون فى محاضرنا...نحن أمام جناية شروع فى انتحار ...
ولقد وجهت إليك أيهاالشاب سؤالاصريحًا ... ماالسبب الذى دفعك إلى ذلك؟ ... والطلوب
الإجابة عن هذا السؤال بدقة مع عدم الخروج عن الموضوع...تفضل!...
-
اكتبوا ذلك السبب التقليدى الذى نطالعه كثيرًا فى الصحف:(لضيق ذات اليد)
فقال النائب:
-
أو نسيت أنك قررت فى المحضر عند سؤالك عن صنعك أنك من ذوى الأملك، وأنك تعش
من ريع عقارات ورثتها عن أبويك؟!...
-
إذن قولوا: إن السبب هو البله أو الخبل أو الضعف العقلى!...
-
أغاب عنك أنك قررت فى
المحضر أنك حائز على ماجستير فى الفلسفة من الجمعة؟!... الفلسفة من الجمعة؟!...
-
قل لى ياحضرة
النائب: ماشأنكم إذا كنت أريد أن أحيا أو أريد أن أموت؟...
-
عجبًا!...ألاتعرف أن الانتحار جريمة؟...
-
أعرف أن الانتحار هو رغبة فى الانتقال من دار إلى
دار...ألاتقرأ فى أعمدة الوفيات بالصحف كل
يوم: انتقال فلان من الدنيا إلى الآخرة كما ينتقل المصيِّف إلى الإسكندرية من
القاهرة...اعتبرونى إذن من المصيفين ...زهدت فى مصايف الدنيا كلها...فخطر لى أن أنتقال
من هذا العلم إلى عالم آخر...
-
هكذا بدون جوار سفر...أو بدون تذكرة...أو بدون
ترخيص؟....
-
حتى فى هذا أبضًا لابد من هذه الإجراءات؟...
-
طبعًا...وهل تظن الأمر فوضى حتى تنتقل من عالم إلى عالم
من تلقاء نفسك خفية على هذا
النحو؟...إن كل مسافر خفية يعتبر مخالفًا حتى المسافر إلى عالم الآخر!...
-
إذن اعتبرونى مخالفًا، لأنى سافرت بدون ترخيص أو بدون
أمر...ولكن لا حق لك فى أن تسألن عن
سبب السفر!. فليكن لتغيير الجو، أو للتهرب من الدائين، أو لملاقاة عزيز، أو للتخلص
من ثقل...
-
اسمح لى بأن أذكرك بأن
سبب السفر يطلب دائمًافى أحوال الانتقال النهائ والإقامة الدائمة بين بلد و بلد...فمن
باب أولى إذا كان الانتقال والإقامة بين دنيا ودنيا...
-
أف!...يالفضول
الناس، وياللحرية المفقودة على هذه الأرض!...
وأطرق الشاب قليلا...وجعل رأسه بين كفية...وانظر وكيل
النيابة لحظة، رأفة به وإشفافًا من الإثقال عليه...إلى أن اعتدل الفتى والتفت إلى
المحقق بعينين تقولان: أَمُصرٌ أنت؟...فقال النائب:
-
نعم...لابد من
الإجابة عن سؤالنا... فقال الشاب وهو يتهيأ للقيام:
-
اكتب إذن أن السبب هو
مرض نفسى...وهذا كل ماعندى...
ولم ير المحقق بدًا من الاكتفاء بهذا الجواب وتمم
إجراءاته...وختم محضره...وأذن للشاب والحاضرين فى الانصراف...لم يكد الفتى يخرج إلى
الطريق حتى كانت الفتاة فى أثره تقول:
-
أرجو أن يكون سخطك علَّى قد زال...
-
فالتفت إليها على الفور قائلا:
-
لن يزول مادمت على قيد الحياة...
-
إلى هذا الحد ترانى قد أسأت إليك؟...
-
لولا تدخلك الطائش لكنت الآن فى عالم أرقى!...
-
تدخلي الطائش!؟...
-
وداعًا ياسيدتى... وداعًا!...
وتركها وقفز من فوق الإفريز ليجتاز الشارع
مسرعًا...وإذا سيارة نقل ضخمة قد داهمته وكادت عجلاتها تسحقه... لولاجذبة من
يدالفتاة جرته إلى الخلف أعادته سالمًا إلى الإفريز حيث كان...فرماها بنظرة نارية
فهمت معناها...وقالت بصوت يقطر حيرة وأسفًا:
-
لاتؤاخذنى...هذا غصب عنى...
فهز رأسه غيظًا وقال كالمخاطب لنفسه:
-
لافائدة...مادمت أنت
موجودة فلن أرى الموت بغينى!....
فقالت شبه معتذرة:
-
وكيف كان ينبغى أن أتصرف!؟...
فانفجر حانقًاثائرًا...
-
كيف... كيف...مصيبة نزلت على رأسى وانتهى الأمر!...من أين طلعت لى أيتها
المخلوقة؟...تفسدين تفكيرى وتدبيرى، وتعبثين بخططى وتحولين بينى وبين
مصيرى!؟...أخبربنى... كيف أهرب منك؟...قولى لى... كيف أهرب منك كى الأقى
الموت؟!...
فلم تستطع الفتاة أن تكنم ماخامرها من ضحك...غير أنها
تماسكت وتصنعت الجد وقالت:
-
مصيبة نزلت عليك!؟...ولماذا لاتعتبرنى ملاكك الحارس؟...
-
أنت؟...لو كنت
ملاكًاحارسًا لاستطعت على الأقل أن أغافلك وأصنع ماأشتهى...
-
ماذا تشتهى؟...أن
تموت؟...
-
نعم...
فصوبت إليه نظرة فاحصة، ثم قالت:
-
ماكنت أعرف أن للموت هواة كهواة التنس، والبنج بونج، ولتجديف!...يحب أن
أعترف حقًا أنى أخطأت إذ منعك من ممارسة هوايتك المفضلة!...ولكن الأمر بسيط...فى
الإمكان إصلاح الخطأ فى الحال...
-
كيف؟...
-
هأنتذا موجود...والصخرة لم تزل قائمة، والبحر لم ينضب
بعد...
-
ألقى نفسى فى البحر من جديد؟...
-
وسأجلس أنا على القمة أطالع كتابك...وأشاهدك تهوى فى
الماء...فلا أرفع عينى عن الصفحة حتى
أتمها على مهل، وبعد ذلك ألتفت إليك وأترحم عليك...مسوط؟...هيابنا!...
-
نعم...هيابنا...
قالها بصوت فيه القوة والعزم والتحدى...ومضى قاصدًا
(سيدى بشر) والفتاة إلى جانبه فى مثل عزمه وتحمسه، وفطن إليها فجأة، فاستدار
قائلا:
-
أنا ذاهب إلى الموت...وأنت...ماشأنك؟...
-
أسلمك إليه بيدى كما أنقذتك منه!...
-
هلمى بنا...
وبلغا (بلاج) سيدى بشر...وأبصرا الصخرة...
فقالت الفتاة:
-
عندى اقتراح...دعك من حكاية الصخرة، وليلبس كل منا
(المايوه) ونسبح فوق (البلسوار) وبعد ذلك...
-
ولكن لاأعرف العوم...
-
وماالضرر مادمت تريد الغرف؟!...
(أرنى الله)
-
صدقت...وبعد ذلك ماذا؟...
-
بعد ذلك تتز حلق وأنت من فوق (البلسوار) وتسقط بين
الأمواج فى المكان الذى يرزق
لك...إنها موته (سبور) طريقه!...مارأيك فيها؟...
فهوش رأسه قليلا وتفكرلحظة ثم قال:
-
لا يا سيدتى...لاتمتهنى جلال الموت...أناالشاب الجاد طول
عمرى، أختتم حياتى بموت (سبور) بدل أن أختمها بموت وقور؟!...ياللنساء!...لايضعن
إصبعهن فى شئ حتى ينقلب لعبًا وعبثًا ولهوًا...اذهبى عنى أيتها المرأة!...
-
لاتغضب!...هلم إلى
الصخرة...
لم تمض برهة حتى كان الفتى والفتاة فوق قمة تلك
الصخرة المعروفة فى (سيدى بشر)...كأنهما عاشقان هربا بجبهما من ضجيج المجتمع وصخب
الأرض...وهل يستطيع الناظر إليهما عن بعد أن يتوم فى أمر غير ذلك، مهما أوتى من
فراسة؟...منذا يشاهد هذين المنفردين الجميلين وهما يتطلعان إلى البحر بنظرات حالمة
ويخطر فى باله تلك الصلة العجيبة التى تربط أحدهما بالآخر...أويمر بخلده تلك
الفكرة المروعة التى تجول برأس كل منهما الساعة؟!...
وطال صمت قطعته الفتاة بقولها:
-
من واجبى أن أنصحك أن تتروى...
-
لاحاجة بى إلى نصائحك...
-
أنت حر...
-
هس!...دعينى أسمع تلك الهمسات التى تناجينى وتنادينى،
إنها آتية من الشفق البعيد...بل هي
صاعدة من الغور لبسحيق...لأتسمعينها؟...
-
همسات تناجيك وتناديك؟...اسمع...أنا لست وكيل نيابة
أمامه محضر، وأنت شخص على أبواب
الوفاة، ولن أحول بينك وبين الموت كما اتفقنا...فهل تسمح وتفصى إلى بسر
انتحارك؟...ماسبب الانتحار؟...
فلم يجبها ولم يلتفت إليها...وظل يحملق فى ماء البحر...ولبثت
هى تنتظر أن شفتاه عن كلام...فلما أعياها سكوته طفقت تقول:
-
السبب ظاهر...طبعًا من أجل امرأة!...
فاتجه إليها بوجهه ورمقها بنظرة سخرية، ثم عاد إلى
ماكان فيه من تأمل الماء دون أن ينبس بحرف...فأردفت تقول بإصرار:
-
لا بد أن يكون هذا
هوالسبب...من أجل امرأة فى حياتك...أولعدم وجود امرأة!...
فاستدار يقول لها بهدوء:
-
لماذا تجعلين للمرأة هذه الأهمية فى الكون؟!...
-
إذن ماالسر؟...
-
يهمك أن تعرفى؟...
-
جدًا...
-
اعرف فى إذن أنه لايوجد سر...كل مافى الأمر أنى أريد
الخروج من الحياة...أريد أن أخرج
منها بكل بساطة...ماذا فى ذلك؟...
-
إنك لم تدخل الحياة بإرادتك حتى تخرج منها بإرادتك...
-
كدت أ خرج منها بإرادتى، لولافضولك وانحشارك فيها
لايعنيك...
-
الحق معك...هذادرس ينفعنى فى المستقبل...وإن كنا أحيانًا
لانقوى على أنفسنا من تنبيه
الغافل...هذه الحياة التى تمقتها...انظر إليها...ألست جملة!...أنت لاترى فى الأفق
والبحر غير أذرع للفناء تدعوك وتناديك...ولكن الناس من حولك يرون بهجة فى كل شئ...
انظر إلى الأطفال والنساء والشيوخ والرجال... فى الماء وعلى الرمال...كلهم مرحون
ضاحكون...لكأنهم يصغون إلى همساة أغنيات
تتصاعد من كل شئ لتناديهم وتدعوهم إلى القاء...
فتململ الشاب ونفخ نافد الصبر ضيق الصدر، وقال:
-
الحياة قبيحة فى
نظرى...أشريكتى أنت فى حدقة عينى وشبكة بصرى؟!...رواية فى السيما لم تعجبنى، وأردت
الخروج...هل لمتفرج فى القاعة أن يمسك
بيدى ويجلسنى على الرغم منى يقول: الرواية ممتعة...امكث حتى النهاية!؟...
فقالت الفتاة بعنف:
-
لاأحد يمسك وانتحت
ناحية من الصخرة، وليث هو لحظة فى مكانه بلاحرك...ثم تزحزح قليلا، واقترب منها
وقال:
-
ومن يضمن لى ألقت بنفسى أنك لا تنقذيننى؟!
فنظرت إليه بعينين واسعتين:
-
من يضمن لك؟...هل يحتاج الأمر أيضًا إلى ضمانات وتأمينات ؟ ... اسمح لى ... هذا كثير ... قلت لك اطمئن
من جنبى ومت كما تشاء ... ولكن يظهر أن الشجاعة فارقتك ... وأنك تلجأ الان إلى
التعلل والتحجج و "التمحك" فصاح قائلا:
-
أنا ؟! .... إنك لا تعرفيتنى ... سترين ...
-
لقد عرفتك ...
-
كم الساعة عندك؟ ...سأموت بعد ...
-
وما لزومالساعة؟ ... قفزة وتصير فى الأعماق! ...
-
أنا حرفى اختيار الوقت ...
-
أرجو أن تسرع من فضلك، ولا تعطلنى أكثر من ذلك ...
وأخرجت مراتها الصغيرة، وجعلت تسوى شعرها بتمهل وتأنق وعندية، وتنظر إلى انكاس
صورته فى المراة وهو واقف كالصنم، لا يدرى ما يفعل ... ثم طفقت تدندن بأقنية معرفة
...فقال لها بنبرة حنق:
-
تغنين؟ ...
-
أنا فى انتظارك! ...
-
الوداع ! ... قبل أن
ألفظ النفس الأ خير، أذكرك بتعهدك ...
إياك أن تحاولى ... فقاطعته قائلة بفتور:
-
اطمئن! ... فاتجه إلى الخر ومديدية وصاح:
-
واحد ... اتنين ... تلا ...
ولم يتم ... فقد انطلقت من فم الفتاة ضحكة عالية ...
فأرخى ذراعيه، والتفت إليها ساخطا ... فابتدرتة قائلة ووجهها فى المراة وإضبعها
تمسح شفتيها:
-
سامحنى ... دهنت فمى بإصبع "الروج" أكثر من
اللازم ... انظـر! ...
-
أهذا سلوك امرأة تشاهد رجلا يحتضر؟! ....
-
انا متأسفة ... لا تغضب ! ... سأتم زينتى فيما بعد
...هلم ... امض فيما أنت فيه ... أنا الان تحت تصرفك ... تفضل ....
وأخفت مراتها،واعتدلت فى جلستها ... ولكنه أطـــرق إطراق
اليائس ... لا من الحياة، بل من الموت ... ثم جلس ووضع رأسه فى كفيه، وبدا كأنه
فريسة لتفكير ممض وحيرة مضنية ... وأمسى منظره يستدر الإشفاق ويستثير الرثاء ...
فدنت منه الفتاة قائلة برفق:
-
لا تعذب نفسك ... حاول أن تعيد النظر فى الرواية : أعنى الحياة، فقد ترى فيها ...
فلم يدعها تكمل عباراتها ... وانتفض قائلا:
-
لا ...لن أرى فيها غير سخيف وقبيح ... أنت لاترين ما أرى
لأنك لاتفكرين برأسك ... وأغلت الناس مثلك ...أتدرين ماالحياة ... إنها
مراة...لاكمراتك تعكس لك وجها جميلا ... ولكنها مراة من مرايا
"اللونابارك" تعكس الحقيقة طويلة وقصيرة، ومنتفخة ونحيلة ...لقد تأملت
فوجدت أنه لا توجد فى الحياة حقيقة ثابتة، فما نسمية الحير والجمال والعدالة
والحرية ...إلح...ليست سوى أشياء لا تحتفظ بصفاتها طويلا دون أن تتحول إلى جواهـر
جديدة عكسية مناقضة ...فالحرية إذا امتدت فى المسافة والبعد صارت عبدية
...والعدالة تمتد إلى نهايتها فتصبح هى الظلم ... والجمال فى امتداده ينقلب إلى
قبح، والخير إلى شر ... حتى المواقع الجغرافية فى هذه الدنيا ليست ثابتة ... فإذا
امتد الشرق إلى نهايته تحول فجأة إلى غرب ... وحسن القمر أو الكواكب الذى يتغنىبه
الشعراء ينقلب إلى هول قبيح إذاتغيرت الأبعاد ...لاتوجد فى الحياة حقائق ثابته ...
كل شيئ أبعاد ومسافات...أين الحقيقة فينا فى هذا "اللونابارك"؟. إن
مراته تعكس لنا صورا تختلف فى الطول والقصر، والبدانة والنحافة، والحسن والقبح
كلما غيرنا البعد والمسافة بيننا وبين المراة ... وكانت الحقيقة خارج "اللونابارك"
بعيدة عن تلك المراة! ... فهل أنا مخطئ إذا سعيت إلى الخروج لأبحث عن حقيقة
وجودى؟! ...ما قولك الان ...أمازلت مصرة على مخالفتى فى الرأى؟ ...
فسكتت الفتاة لحظة ...ونظرت إليه تتأمله مليا هم قالت:
-
هل تشكو من إمساك مزمن؟ ...
-
نعم ... كيف عرفت ذلك؟ ...
قالهاسريعا، ولكنه لم يلبث أن فطن للمفارقة ... فتجهم
وهم بعتابها وانتهارها، فليس هذا هو التعليق الائق بتفكيره العميق ... ولكنها
أسرعت بقول بلطف:
-
أتدرى لماذا تفكر فى الانتحار! ...هذا طبيعى ... أنت
تصعد فى القممم ... ألاتلاحظ أن أولئك الذين يصعدون الهرم الأكبر، يشعرون بدوار، ويحسون
كأن الأرض تجذبهم وتناديهم؟ ... ولولا أيد تسندهم لسقطوا ...ولولا أيد تسندهم
لسقطوا ... أوالقوا بأنفسهم وهم لا يشعرون ... ولكن من المستحيل على من يمشى فون
الأرض أن يشعر بدوارالمرتفعات الذى يغرى بالوقوع! ... عندى لك علاج لدوار
المرتفعات ... أتدرى ماهو ؟ ... أن تتعاطى بعض التفاهات ! ...
فلم يكد الشاب يسمع منها ذلك حتى ثار:
-
التفاهات ؟ ... أنا الذى اعتدت التفكير والتأمل طول
العمر؟! ...
فقالت هادئة:
-
لماذا تجعل
للتفكير هذه اللأهية فى الكون ؟! ...
-
ماذا تقولين؟ ...
-
اسمع ! ... اذهب وازدرد "كوزين" ذره مشوية على
"الكورنيش" واملأ أمعائك بنصف أغة خيار أخضر بقشرة ...
-
يا حفيظ ! ...
-
وتزوج امرأة وتناكفها وتناكفك ... وتملأ جزءا من حياتك
بالسخف والقرف والخلف ...
-
أتزوج ؟! ...
-
وإذاطلبت منى هذه التضحية لعلاجك ... فإنى أقدم نفسى
كأنها دواء من "الأجزاخانة" فى زجاجة عليها ورقة ....
Tidak ada komentar:
Posting Komentar